وأنت..
أنتِ يا توأم الروح..
يا منية النفس الدائمة الخالدة..
يا أنشودة القلب في كل زمان ومكان..
مهما هجرت ومهما نأيت..
عندما يوشك القرص الأحمر الدامي على الاختفاء..
ارقبيه جيداً..
فإذا ما رأيت مغيبه وراء الأفق..
فاذكريني..
بين الأطلال 1952
------------------------------------------------------------------------
في مكان ما بين السماء والأرض حيث تهيم الأرواح التقيته..
ويال سعادتي حينها..
فهو فارسي ومثلي الأعلى..
هو أول من قاد خطوات القلب إلى عالم الرومانسية..
وأول من زرع فيي الحُلم بأن أكون كاتبة..
هو أول أسرني بخياله وصدمني بواقعيته..
تقدمت إليه سريعاً حيث كان يجلس فوق غيمة بيضاء، وهو يدون كلمات لم أدرِ ما كنهها..
ناديته همساً إذ لم أشأ أن أفسد عليه لحظة انهماكه في الكتابة..
ولما لم يلتفت أعدت النداء بصوت أعلى قليلاً وقلت :
أيا فارس الرومانسية هل تأذن لي بمقاطعة خلوتك لبعض الوقت؟!..
عندها رفع رأسه والابتسامة الذهبية تعلو وجهه، ونسمات الهواء تداعب خصلات شعره الفضي، وقال :
أهلاً بكِ يا بنيتي.. إن وقتي كله ملكك فتحدثي كيفما تشائين، ولا تقلقي فأنا لم ولن أتضايق من مقاطعتك لخلوتي..
ابتسمت ابتسامة واسعة وحاولت بدء الكلام، لكن عينيه الزرقاوين أخذتا تحدقان بي في حنو فألجمتا لساني..
وبعد برهة من التحديق قال : يُخيل إلي أنني أعرفك أيتها الشابة منذ زمن بعيد..
رددت : نعم يا فارسي ويا ملهمي..
لقد تعارفنا منذ سنوات صباي الأولى.. مع أول مشهد من فيلم رد قلبي.. مع أول كلمة من رواية بين الأطلال.. مع أول دمعة ذرفها كلانا على عايدة وأحمد في إني راحلة.. مع أول بذرة إيمان بأن العمر كله يهون إلا لحظة في العمر لحظة..
بفضل كلماتك آمنت بأن الأمل لن يموت.. وتعلمت بأن حزني وشجني ليسا عيباً.. وصدقت بأن هناك توأم لروحي يحيا في هذا العالم، وأحلم أن أجده يوماً ما !..
فابتسمت كل ثنية من ثنايا وجهه وقال : نعم نعم.. لقد تذكرتك أيتها الشابة.. لكم كنت مصدر سعادة وقلق لي في نفس الوقت!..
سألته: لماذا يا فارسي العزيز؟!..
أجاب : كنت أسعد بمشاعر الإيمان والأمل والحب والمواساة التي تمنحها لك كلماتي.. لكن في نفس الوقت كنت أقلق من استغراقك في عالم الأحلام وتؤلمني دموعك على أبطالي الخياليين الواقعيين وعلى أوجاعك!..
عندها لم أنتبه للنصف الثاني من الجملة الأخيرة ووجدتني أسأله : كيف تقول عن أبطالك خياليين؟!.. أوليست شخصية عايدة وانجي ومنى مستوحاة بالفعل من شخصية دولت ابنة عمك وحبيبتك وزوجتك؟!
رد : لاحظي أنني قلت بأنهم خياليون واقعيون.. وليست كل تفاصيل حياتهم حدثت في الواقع.. صحيح أن دولت هي بطلة رواية إني راحلة، فنصف القصة الأول يصور فترة خطوبتنا وعلاقتنا كأولاد عم، لكن نصفها الثناي فخاص لوجه التأليف والحبكة القصصية.. وصحيح أنها هي انجي التي كانت تنتظر عودة علي في أجازته الأسبوعية من الكلية الحربية لتمضي الساعات إلى جانبه دون أن تشعر بوقعها، وهذا هو ما كان يحدث معي فعلياً.. إلا أنها لم تكن ابنة أمير تركي.. وصحيح أنها منى العاشقة التي التهمت كل سطر كتبته حتى صارت القارئة الأولى والحبيبة الدائمة.. إلا أنها لم تتركني وتتزوج غيري ولم أمت بالطبع إلا بعد أن أنجبنا اسماعيل وبيسا ولدينا بسنوات طويلة!!..
وهنا قهقهنا ضاحكين... ثم أردفت:
لطالما شغلتني قصة الحب العنيفة التي لاقت صعوبات جمة في رواية رد قلبي.. ولطالما أعجبتني فكرة أن الحب انتصر في النهاية وتزوج ابن الجنايني من الأميرة ليثبتا بأن كل البشر متساوون وأنه لا فوارق في الحب.. فهل يا تُرى كنت حقاً تعني تلك النهاية ؟ أي هل أنت مؤمن بأن الحب يلغي الفوارق الطبقية اللعينة؟!
تنحنح بعض الشيء ثم قال :
حين سألتني ابنتي بيسا ماذا سأفعل لو جاء يوم وأحبت ابن عم يوسف الجنايني كما فعلت انجي في الرواية، أجبتها بأنني بالتأكيد سأشعر بالفرق.. وأنني أقول هذا في الكتابة فقط.. فنحن نحاول في الكتابة أن نهيئ لأنفسنا ناحية من الإرضاء نفتقدها في الحياة.. لكن الحب الأفلاطوني هذا قد يصلح لأن يكون موضوعاً لقصة ناجحة.. أما أن نجعل منه حقيقة واقعة فهذا قد يجلب علينا الحسرة والندم.. إننا لكي ننجح في الكتابة علينا أن نُحكِّكم قلوبنا لكن لكي ننجح في الحياة علينا أن نُحَكِّم عقولنا!!
ذهلت من هذا الرد الصادم وأطرقت أرضاً في حزن..
وجدته يربت عليِّ بإشفاق ويقول : سامحيني لكن الحياة ليست دائماً عادلة.. وإنني ما قلت هذا إلا لأنني لا أريد أن تتألمي فيما بعد.. وهذه هي ضريبة النضج!
أومأت إليه بنظرة متفهمة وإن بدت غير راضية في نفس الوقت..
قال: أعلم بأنك عنيدة ولن تتوقفي عن الإيمان بانعدام الفوارق في الحب.. لكنني أيضاً أثق بأن هذا الإيمان لن يكبل عقلك عن التفكير السليم..
اتسعت ابتسامتي زهواً وفخراً.. ثم وجهت أسئلتي نحو منحى آخر..
فقلت : هل ترى أن الأديب الناجح هو صحفي ناجح؟! وهل ترى تولي الأديب لمناصب إدارية في الدولة أمراً مفيداً له؟!
أطرق في صمت مسترجعاً ذكريات الماضي، ثم قال:
ليس بالضرورة أن يكون الأديب الناجح هو صحفي ناجح، لكنه بالتأكيد سيكون متمكناً من أدواته أثناء الكتابة.. وستكسبه الصحافة فرصة الملاحظة والاستنتاج والوعي بكل ما يحدث، وفنون التعامل الصحيحة مع كل طارئ.. والأديب الناجح هو الذي يدخل مجال الصحافة من باب النقد وكتابة المقال لا غير ذلك..
أما عن تولي الأديب لمناصب إدارية فأنا أرى أنها لعنة وقيد يكبل حريته لا شُرة ونعيم كما يتصور البعض.. فما بين المشاكل المادية في إدارة المؤسسات الصحفية، والاختلافات في المذاهب والآراء بين الكُتَّاب وضرورة التوفيق بينها لمصلحة الجميع في الاتحادات الأدبية، وبين تخلي الأديب عن التعبير عن رأيه والالتزام بوجهة نظر رئيس الدولة وخطتها أثناء تولي المناصب الوزارية يضيع الأديب.. كما قد يجف نهر إبداعه ويكتسب المزيد من الأعداء كما حدث معي تماماً..
أطرقت في حزن وقلت :
لهذا اغتالوك في قبرص أثناء حضورك لمؤتمر التضامن الأفروآسيوي، الذي عُقد لصالح القضية الفلسطينية، بصفتك أمين عام المؤتمر عام 1978؟!
شرد بعيداً ثم تحدث قائلاً:
لقد لامني الجميع لأنني أيدت الرئيس السادات ورافقته بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ضمن الوفد المصري إلى القدس.. واعتبر الجميع أنني صرت خائناً للقضية الفلسطينية وأنني نسيت أن الصهاينة أيديهم مازالت ملوثة بدماء الفلسطينيين.. لهذا قرروا الانتقام مني.. قتلوني بدم بارد وبكل خسة بدعوى أن لي آراءً معادية للقضية الفلسطينية.. ثلاث رصاصات في الرأس أطلقوها فجأة علي أثناء توقفي أمام منفذ بيع الجرائد والمجلات أمام القاعة التي يُقام بها المؤتمر.. من رحمة ربي أنني لم أتعذب كثيراً وفاضت روحي لبارئها..
سألته : هل أنت حانق عليهم ؟!
أجاب : لا لم أحنق يوماً عليهم.. لكن أكثر ما آلمني كم القتل والكراهية اللتين استشرتا من بعد وفاتي.. فحنقي الحقيقي كان على الرئيس السادات الذي اهدر دماء رجال قواتنا المسلحة بدعوى تحرير الرهائن من زملائي الكتاب الذين اختطفوا فيما بعد من قِبل قاتليِّ.. وعلى حرمانه للفلسطنيين جميعهم من حقوق منحها لهم الرئيس عبد الناصر، فعاقب شعب كامل بذنب ليسوا مسئولين عنه.. وأثار العدواة لسنوات بيننا وبين إخوتنا الفلسطنيين.. لا أظن أن التاريخ سيسامحه على ما فعله!
كما كان أكثر ما عذبني بعد موتي دموع أسرتي وقرائي.. لكنني كنت أعلم أن الموت قريب جداً مني.. ذلك الموت الغاشم الذي اختطف مني والدي يوماً وترك جرحاً في قلبي لا يندمل.. ذلك الموت الذي كنت أخشاه على أبنائي وتخشاه عليِّ حبيبتي دولت..
على كلٍ أنا لم أحزن يوماً على فراقهم لأنني كنت أتابعهم في كل ليلة من أعمارهم.. وأحيا في هذا البرزخ منتظراً مجيئهم ليؤنسوني ونعيش سوياً في الجنة كما عشنا يوماً في الدنيا..
عند هذا الحد وجدتني أفرك عينيِّ وكأنه هناك شيء يلهبها..
لأفتحهما بعد ذلك وأكتشف أنني عدت إلى عالم الواقع، وأن هذا اللقاء ما كان إلا من وحي بنات الخيال والأحلام !!
----------------------------------------------------------------------------------
المراجع :
كتاب يوسف السباعي سبعة وجوه للكاتبة حنان مفيد