أخذ يمشي بخطوات متثاقلة في الشارع الواسع.. كان الهدوء يلف الأجواء من حوله.. وكيف لا يحدث ذلك والوقت قد تجاوز منتصف الليل ببضع ساعات.. لم يتبرم أو يتضايق من ذلك الهدوء، فبداخله كان هناك صخب يتزايد ويتناقص حسب نوع النقاش الدائر بين الأفكار المتزاحمة بداخل رأسه الصغير.. ومع كل هذا الصخب أخذ يحاول التفاعل مع ذلك الهدوء من حوله..
البيوت الصامتة المقفلة على كل المتناقضات التي يمكن تخيلها في الحياة.. أحد الباعة مازال يعمل حتى وقت متأخر، وجده يجلس أمام محله يستمع في انسجام إلى موسيقى ما تنبعث من راديو صغير بجواره.. يسير مبتعداً عن هذا المحل وينغطف يساراً، لتفاجئه دراجة نارية مرت مسرعة بجواره.. كان صاحب الدراجة يتمايل بها يميناً ويساراً على نغمات مريعة لأغنية شعبية لا يمكن لأحد تفسير فحواها.. "يبدو أنه مخموراً" هكذا حدث نفسه.. لكنه فكر قليلاً، لماذا حكم على السائق بأنه كان مخموراً؟ ماذا لو كان سعيداً أو بداخله جرعة نشاط زائدة اختار التعبير عنها بهذه الطريقة ؟!!.. مط شفتيه إلى الأمام وتثائب ثم أكمل سيره..
مر بجوار بناية مبنية على الطراز الباروكي أو الفيكتوري ربما.. تساءل، متى سيحين موعد هدم هذا الجمال؟!.. يبدو أن القبح قد أصابه نوع من "الزهايمر"، وغفل عن تلك البناية التي ينطق كل جزء فيها بالدفء والحميمية.. أطلق زفرة حارة ثم توقف فجأة.. لقد لاح أمامه تقاطع، ووجب عليه أن يحدد إلى أين سيتجه.. لكنه حقاً لم يكن يدري إلى أين عليه أن يذهب !.. فمنذ جاء إلى الدنيا وهو لا يدري له سكناً، وحكم عليه القدر بأن يكون الشارع هو موطنه ورفيقه.. تنهد وأغمض عينيه منتظراً إشارةً من الريح لتخبره أي اتجاه عليه أن يسلك.. وكانت الريح كريمةً معه، فحملت له إشارةً صوتيةً قادمةً من نهاية الشارع الممتد أمام ناظريه.. فسار إلى الأمام تقوده أذناه لمعرفة مصدر الصوت.. حتى وجدها هناك تطل من إحدى الشرفات، وهي تترنم بنغمات غريبة لم يسمعها من قبل.. استغرب تواجدها في ذلك الوقت المتأخر، لكنه لم يشغل باله كثيراً بالسؤال فقد سحره بياضها.. وتسمر أسفل شرفتها فلمحته بطرف عينيها.. أخذت تروح وتغدو أمامه في دلال، ثم نظرت فجأة إلى عينيه مباشرةً..
كانت مجرد نظرة لكنها حملت الكثير من المعاني.. لوهلة شعر بالحنان والحب والدفء يغمره.. وهتف بداخله: "وأخيراً وجدت وطني وسكني.. قرر ألا يبارح مكانه منتظراً أن تلوح بشائر الصباح، ليصعد إليها ويخبرها بكل ذلك.. ثم يرجوها أن يبقى إلى جوارها طول العمر.. لكن حدث شيء لم يكن في الحسبان.. فقد ظهر فجأة شبح كائن أسود ضخم الحجم، ووقف إلى جوارها.. عندها أدارت ظهرها إلى الشارع وأخذت تتمسح في ذلك الكائن الضخم، الذي لم يكن سوى قط شيرازي أسود اللون.. فرفع ذلك القط قائمته وأحاط بجسدها السيامي الناعم.. وقع هذا الأمر على صاحبنا الشارد كخنجر مغروس في القلب.. خفض رأسه أرضاً وحدث نفسه قائلاً:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق