"البعض يقول أن قدرنا مرتبط بالأرض فنحن جزء منه كما هو جزء منا .. والبعض الآخر يقول أن القدر منسوج كنسيج القماش بحيث أن قدر الفرد مرتبط بأقدار الآخرين.. إنه الشيء الوحيد الذي نبحث عنه ويجب أن تحارب للتغيير.. والبعض قد لا يجده أبداً.. لكن هناك آخرين يتم إرشادهم "
بهذه الكلمات بدأت أحداث الفيلم الكارتوني "Brave".. الفيلم تم عرضه في عام 2012 ..تدور قصته باختصار حول "مريدا" ابنة الملك فيرغوس التي يجب عليها أن تتزوج أحد أبناء رؤساء العشائر الثلاثة.. والهدف من ذلك هو استمرار التحالف لحماية المملكة الكائنة في اسكتلندا.. تتمرد ميريدا على توجيهات والدتها التي تسعى للحفاظ على تحالف المملكة ومنع الحرب.. وفي هذا السياق تتسبب في إصابة والدتها بتعويذة كادت تودي بحياتها.. لكن في النهاية تنجح في إنقاذ الأم بعد استيعاب الدرس.. ألا وهو أنه لا يمكن للمرء تحقيق أحلامه وأهدافه على حساب الآخرين وأن أقدارنا مرتبطة بالآخرين من حولنا لكنها أيضاً من صنع أيدينا.. فقط علينا ألا نتصف بالأنانية أثناء تحقيق ذلك.
عندما شاهدت الفيلم استوقفتني كثيراً تلك الجمل الافتتاحية.. خاصة تلك التي تعني أن أقدارنا كنسيج القماش خيوطه مرتبطة بخيوط أقدار الآخرين.. علينا أن نحارب فعلا للتغيير وتحقيق ما نريده لكن في نفس الوقت نحتاج للكثير من التعقل والحنكة في التنفيذ.. كثير منا يظل تائه وهو لا يدري ماذا يجب عليه أن يفعل في هذه الحياة وما هي مهمته على الأرض.. لكن هناك آخرون يتم إرشادهم لمعرفة ما هو قدرهم في هذه الدنيا بطرق خفية.. ينجحون فقط في معرفة ذلك إذا تخلصوا من كل الشوائب التي تعكر صفو قلوبهم وأدمغتهم..
ثم تأتي القضية الأساسية من وجهة نظري.. فعلى الرغم من أنه فيلم رسوم متحركة وأعتقد أنه موجه للصغار ليكتشفوا أنفسهم.. إلا أنني رأيت فيه رسالة خفية موجهة لواقع تعيشه فتيات العصر الحالي.. فميريدا كانت تعاني - من وجهة نظرها - من قيود التقاليد التي حتمتها عليها ظروف أسرتها الحاكمة.. فهي الأميرة .. هي المثال والقدوة.. لا يمكنها أن تهرب من أي شيء.. عليها واجبات ومسئوليات وتطلعات.. حياتها بالكامل مخطط لها.. تتحضر لليوم الذي ستحتل فيه نفس مكانة والدتها.. ولهذا فإن والدتها مسئولة عن كل يوم يمر في حياة ميريدا.. تمتلئ حياة ميريدا بالأوامر والنواهي.. عليها ألا تضحك بصوتٍ عالٍ.. ألا تملأ فمها بالطعام.. أن تستيقظ مبكراً.. أن تكون حنونة وصبورة وتسعى لتحقيق الكمال..
بنظرة متأملة لتلك الصورة أجد أن كثير من فتيات جيلي يعانين من مثل هذا.. تضييق لحريتهن تحت مسمى العيب والتقاليد والواجب.. لا أقول أن كل ما يحاول الأهل إجبارنا على الالتزام به هو أمر خاطيء.. لكن في داخل كل منا هناك ميريدا صغيرة.. ميريدا التي لا يجب عليها الخضوع لدروس أو تطلعات الآخرين.. ميريدا التي تريد أن تحيا ولو يوم واحد بحرية.. يوم تستطيع فيه تغيير قدرها.. فتتعلم الغناء أو الرقص أو الرسم.. أن تعرف حقاً ما تريد فعله في حياتها.. أو أن تقوم بعمل ما تحبه وليس أن تتحول لآلة في ترس كبير.. تستيقظ فقط للذهاب للعمل أو لتنظيف المنزل وتكدح من أجل الحصول على المال.. وتظل دائماً خاضعة ومنفذة لتوجيهات وأوامر الكبار من الأهل أو الأقارب..
حين جاء المشهد الذي يدور فيه حوار بين الأم والابنة "ميريدا" حول وجوب قبولها بأحد الخاطبين الثلاثة المتقدمين تبادر إلى ذهني مشهد شبيه.. خاطب "جاهز" كما يقولون بلغتنا المصرية الدارجة.. ولا يهم هل الفتاة على اقتناع به أم لا - و لا أقول هنا أنها تحبه أم لا رغم أن هذا هو أبسط حقوقها- كما لا يهم ما تريد فعله في حياتها.. فكثير من الأهل يضغطون على بناتهن بطريق مباشر وغير مباشر للمضي قدماً في خطوة الزواج دون أن يأبهن لرغباتهن.. فلربما تريد الفتاة الانتظار وإكمال الدراسة على سبيل المثال أو حتى العمل في وظيفة جيدة.. وربما تود السفر للخارج أو فعل أشياء أخرى يقيد تحقيقها الارتباط.. لكن كل هذا لا يهم بالطبع فهي وصلت لسن الزواج والخاطب جاهز و"ما يتعيبش" !...
ميريدا في ذلك المشهد كانت تلوم أمها على الضغط عليها وتحدثها بأنها تريدها أن تسير في طريقها هي لتحقيق قدرها هي أو قدر المملكة كما تقول الأم دون أن تأبه لما تريده ميريدا.. ميريدا التي كانت خائفة و ترى أن غير جاهزة أبداً لتقييد حياتها بأي ارتباط.. ميريدا التي ترى أن إجبارها على القبول بشخص لم تره وغير مقتنعة به أمر في قمة الظلم.. إنها ترى في هذا نهاية حياتها وهي التي تريد حريتها.. لكن على الجانب الآخر تجد الأم تقول بأن هذه تضحية يجب على ميريدا أن تقوم بها.. وتسأل ميريدا في استنكار عن حريتها التي تريد الاحتفاظ بها "هل هي مستعدة لدفع ثمن حريتها؟!" .. تلك الجملة في الفيلم ضربت عقلي كصاعقة.. فهل بنات جيلي مستعدات فعلاً لدفع ثمن حريتهن الذي ينادين به.. ذلك الثمن الذي يعني حرمانهن من الزواج أو أن يوصمن طوال العمر بأنهن خارجات عن التقاليد حين يعملن في مجال مختلف تمام الاختلاف عما اعتادته مجتمعاتنا الشرقية.. انا حقاً لا أعرف الإجابة ؟!
وأعود إلى ميريدا ووالدتها حين قررت ميريدا مخالفة التقاليد والتقدم لمسابقة رمي السهم، تلك المسابقة التي اقترحتها لتستطيع أن تقرر من يمكن أن يتزوجها من الخاطبين "المعتوهين" الثلاثة.. كانت المسابقة عبارة عن التفوق في إصابة الهدف برمي السهم.. ولأن ميريدا بارعة في هذا المجال فقد تفوقت على خاطبيها الثلاثة.. حينها وبختها أمها كثيراً على جرأتها ومخالفتها لتقاليد المملكة.. لكن ميريدا ردت بأن الأم لا تفكر في ابنتها وترى في هذا الزواج تحقيق لمرادها هي فقط.. الأم لم تسأل ميريدا يوماً عما تريده.. بل دائماً تقول لها ما يجب عليها أن تفعله وما لا يجب بصيغة تحمل الأمر غير القابل للنقاش.. فلماذا تريد الأم لميريدا أن تصير مثلها.. إن ميريدا لن تقبل وستتمرد على هذا الوضع.. تعنفها الأم فهي بذلك تتصرف كالأطفال وإن مسئوليات المملكة تحتم عليها أن تلتزم بالتقاليد.. لكن ميريدا ترفض وتقبل الموت على أن تتزوج بهذه الطريقة.. ألا يذكرنا ذلك المشهد بما يحدث على أرض الواقع ؟!
لكن ولأن الفيلم كانت فكرته الأساسية أن تعرف البطلة قدرها
ومصيرها فعلاً فقد جاءت النهاية موجهة.. فبعد أن تسببت ميريدا بتحول أمها
إلى "دب" بسبب تعويذة ما لتغيير القدر، جاءت في النهاية لتغير من تفكيرها.. فقد قررت أن تقبل التضحية لإنقاذ المملكة من حرب شعواء.. لكن الأم التي استفادت أيضاً من تلك التجربة واستطاعت النفاذ إلى قلب وعقل ابنتها أثناء رحلة البحث عن مخرج من تلك التعويذة، قررت ألا تضغط على ميريدا لتقوم بما لا تريده.. لقد أرشدتها إلى الحل وهو أن تخرق التقليد.. فميريدا و كذلك الخاطبين الثلاثة أحرار في كتابة قصتهم.. قصتهم التي تنبع من قلوبهم ومن حقهم في إيجاد الحب في الوقت الذي يريدونه.. فأيدها الخاطبين بمناشدة آبائهم في الحصول على حقهم باختيار مصيرهم الخاص..
يبقى أن أقول أن نهاية الفيلم جاءت تحمل الرسالة التي أريد توجيهها لكل آبائنا وأمهاتنا "كونوا دوما هناك لأجلنا .. ولا تيأسوا منا أبداً !" .. بالإضافة إلى رسالة شخصية لمستني بشكل خاص جاءت على لسان ميريدا :
"هناك أولئك الذين يقولون أن مصيرنا هو شيء أبعد من أن نتحكم فيه.. أن قدرنا ليس ملكنا.. لكنني أعرف بشكل أفضل أن قدرنا يعيش بداخلنا .. فقط عليك أن تكون شجاعاً بما يكفي لترى ذلك !"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق