في جنح الظلام أرهفت سمعها فالتقطت أذنيها صوت حركة بداخلها.. كانت عبارة عن وقع خطوات لشيئين يركض كل منهما محاولاً استباق الآخر لبوابة روحها وإعاقته إن لزم الأمر.. يتعثر الأول فينهض سريعاً ساعياً إلى عرقلة الآخر فإذا ما وقع الثاني أرضاً ضحك الأول وشعر بنشوة الانتصار.. لكن الثاني لا يردعه شيء فيستخدم النور الذي يشع من قلبه في محاولة لإعمائه فيضل الطريق إلى داخل روحها وبالتالي يصل هو قبله إلى قلب روحها لينقذها مما هي فيه...
كانا توأمين مختلفين تماماً عن بعضهما.. الأول يضيء بالنور والبهجة اللذين أودعهما الله في قلبه.. أما الثاني فقد خُلق وفي قلبه بقعة من السواد.. أخذت تكبر بداخله مع مرور الأيام حتى استحال إلى شيء قاتم.. شيء لا يمكنك أن تراه لكنه يملأ روحك بألوان كئيبة ويجعل السحب الرمادية تظلل رأسك طيلة الوقت.. حين خلقهما الله لم يكن يعلم بأنه ستنشب معركة لا تنتهي بينهما.. فكلاً منهما يسعى للسيطرة على بني الإنسان.. الأول نبيل الغاية والمقصد.. يسعى دائماً لإنارة روح ابن آدم فيتعرف بها على الله ويواصل طريقه وسعيه في الحياة.. يمنحه السعادة ويخبره دوماً بأن الحب موجود في كل زخة مطر أو رشة عطر أو بسمة طفل أو نظرة حبيب أو حبيبة.. أما الثاني فهو خبيث النية.. كل همه أن يحيل الدنيا إلى سواد أمام ابن آدم.. يستمتع برؤيته وهو يتعذب.. يجعله دائماً يشعر بأن أحلامه لن تتحقق أبداً وبأنه لا وجود للحب على هذه الأرض ولا نفع من هذه الحياة.. ذروة نجاحه حين تستولي على الإنسان فكرة أنه ضئيل وبأنه غير قادر على إصلاح الكون أو حتى تغييره قيد أنملة.. حين خُلقا أطلق الله على الأول اسم أمل والثاني اسم يأس.. وتبدأ معركتهما مع بداية تكون الوعي في سنوات العمر الأولى للإنسان وتستمر معه حتى مماته..
أما هي فكانت روحها تعاني من الهشاشة والضعف.. كانت بحاجة إلى أن يستعمرها أحدهما استعماراً شاملاً.. ولم تكن لتبدي أية مقاومة أبداً بل كانت ترحب بوجود أحدهما أياً كان.. فالتأرجح بينهما أمر مرهق جداً والمعركة التي كانا يشعلانها بداخلها كانت تزيدها إرهاقاً.. كانت تعلم في قرارة نفسها أن تحتاج للأول كثيراً.. تحتاج للبهجة والنور والحب وخاصة الأخير.. لكن مع كل مرة كان الواقع من حولها يزداد صعوبةً وبؤساً ومع كل مرة تتمنى قرب حبيب ولا تجده كانت ترغب في الاستسلام تماماً للثاني.. ربما يستطيع بذلك إسكات دموعها وأناتها..
وهكذا كانت تظل فريسة لهذا وذاك.. حتى أتى يوم ما واستطاعت طردهما كليهما من روحها.. حينها شعرت بخواء رهيب في روحها.. أخذت تواسي نفسها بأن ذلك أفضل لها.. نعم فالحل يكمن في تبلد الحس وتحول كل الألوان إلى لون أبيض باهت.. فهي لم تعد قادرة على احتمال بؤس انتظار جميل أو حبيب قد لا يأتي..
لكنها لم تعلم بأن كليهما يستعد لمعركة جديدة.. فهما لم يكونا مستعدين لتقبل فكرة ترك روحها خاوية من أحدهما.. فإما استعمارها وإما موتهما معاً.. أرهفت سمعها مرة أخرى لصوت المعركة الدائرة بداخل الروح ووقفت تنتظر النتيجة.. فقط كانت تأمل ألا تنتظر طويلاً.. فلم يعد في العمر بقية للانتظار !!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق